ملاك كنيسة ثياتيرا
" وأن أعمالك الأخيرة أكثر من الأولى لكن عندى عليك .. "
( رؤ 2 : 19 ، 20 )
مقدمة
لعله من المناسب أن نشير إلى أن الواعظ الكتابى المشهور ألكسندر مكلارن وهو يتحدث عن الكنائس السبع ، ووعد المسيح للمنتصرين فيها ، أطلق على المنتصر الأول فى أفسس بأنه الحائز على « طعام الحياة » وهو الوعد المبارك من السيد بالأكل من شجرة الحياة ، .. والثانى الحائز على « إكليل الحياة » .. « كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة » !! .. وهو الوعد لملاك كنيسة سميرنا ، .. والثالث الحائز على « سر الحياة » وهو المقدم لملاك كنيسة برغامس ، والرابع الحائز على « قوة الحياة » وهو الوعد الموضوع أمام ملاك كنيسة ثياتيرا ، والخامس الحائز على ثوب الحياة ، وهو الموعود به لكنيسة ساردس ، والسادس المقدم لملاك كنيسة فيلادلفيا ، وهو المبارك الذى مع ملاك كنيسة سميرنا لم يوجه المسيح لهما لوما ، .. وقد منحه السيد «أسماء الحياة» بعمق مفهومها ومضمونها ومعناها ، .. والأخير السابع للملاك الفاتر ملاك كنيسة لاودكية ، بسيادة المنتصر فى الحياة ، فيما لو تاب وتحرر من فتوره وضعفه وهزال حياته الروحية ، ... وفى كل هذه الصور جميعاً نرى المسيح مصدر الحياة ونبعها وقوتها وجلالها ومجدها من كل الوجوه ، وسنراه هنا يشجع ملاك كنيسة ثياتيرا بالقوة التى يحتاج إليها فى الحياة ، .. ومن ثم يحسن أن نتابع قصة هذا الملاك فيما يلى :
ملاك كنيسة ثياتيرا والنمو الروحى
تقع مدينة ثياتيرا بين برغامس وساردس ، واسم المدينة فى الوقت الحالى « أخيسار » ، وكان معبودها الأعظم هو أبولو إله الشمس ، وقد اشتهرت المدينة بتجارة المنسوجات والنحاس ، ولا ننسى أن ليديا بياعة الأرجوان التى التقى بها بولس فى فيلبى كانت أصلا من هذه المدينة ، وربما كانت هى أو غيرها السبب فى دخول المسيحية إلى ثياتيرا ، .. والذى يهمنا ملاحظته ، أن السيد وهو يتحدث إلى ملاك الكنيسة فيها ، وهو الرقيب الذى عيناه كلهيب نار ، سجل له شيئاً جميلا جداً ، من المؤكد أنه سر به كل السرور وهو أن أعماله الأخيرة أكثر من الأولى ، ولعل هذه توقفنا أمام عدة حقائق مجيدة وأساسية . أولا : إن اللّه إله عليم وتوزن به الأعمال كما قالت حنة قديماً : « لأن الرب إله عليم وبه توزن الأعمال » ( 1 صم 2 : 3 ) .. وهو يراقب قصة حياتنا ، ولا يمكن أن تخفى عن عينيه خافية ، ولكل منا رصيده فى بنك السماء ، ... كتبت إحدى المرسلات فى نيجيريا مقالاً روت فيه القصة الآتية : حدث فى إحدى الليالى أننا كنا نعظ فى قرية، وقال زوجى فى خطابه إن اللّه لا ينعس ، وبدا زعيم القبيلة الذى كان حاضراً يتململ فى مكانه ، وقد ظهر عليه الارتباط ، ولاحظنا أن شفتيه تتحركان ، وكنا فى وقت عصيب ، لم يكن هناك أمن على حياتنا ، ولذلك لم يكن من المطمئن كثيراً أن نرى زعيم القبيلة يبدو غير مستريح، والرجل الأبيض يتكلم ، فلما انتهى زوجى من خطابه سأل الزعيم إن كان عنده ما يريد أن يقوله ، فسأل هل حقيقة أن اللّه لا ينعس ولا ينام وأكد له زوجى ذلك ، فأخذ يكرر يخشوع ووقار: اللّه لا ينعس ولا ينام .. وقد أثر فيه أعمق تأثير لأن إلهه القديم الذى كان يؤمن به كان يتصوره كائناً لا يهتم به !! . كان الصينيون يؤمنون بأن الكائن الأعلى لا يهتم بالناس ، غير أن الإيمان المسيحى يؤكد العكس ، وقد قال بنيامين فرانكلين فى المؤتمر الذى عُقد فى عام 1787 لوضع الدستور الأمريكى : كلما تقدمت فى الأيام ، كلما رأيت بأكثر البراهين إقناعاً لى ، أن للّه سلطاناً فى مملكة الناس. وإذا كان العصفور لا يسقط إلا بإذنه ، فهل يمكن أن تقوم مملكة أو تسقط بغير أمره، لقد حقق لنا الكتاب المقدس أنه إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون ، وأنا أؤمن بذلك تماماً ، أنه بدون مساعدة اللّه لا يمكن أن نتقدم فى هذا البناء السياسى بأحسن مما تقدم بناة برج بابل !! .. أراد والد أن يعلم ابنه عن حقيقة وجود اللّه فى الحياة فرسم اسم ابنه فى حديقة ووضعه فى شكل قلب ، وملأ الفراغ ببذار زهر زرعه فلما أفرخت البذار قرأ الولد اسمه فى الزهر واندهش ، وأظهر أبوه فى أول الأمر أن الاسم ظهر تلقائياً وبمجرد الصدفة ، وأنكر الولد ذلك بشدة قائلا لابد أن يداً رسمته ، وعندئذ قاد الأب الغلام ، إلى الإيمان باللّه الذى رسم كل شئ بجلال ومجد فى الطبيعة !! كانت ابنة صغيرة وأخوها يحملان سلة مملوءة بالكعك ليذهبا به إلى جدتهما ، ودفعهما الفضول ليعرفا ماذا يوجد داخل السلة فرفعا الغطاء ونظرا ، .. وعندما لمحت عيونهما الشرهة الكعك المغرى تحلب منهما الريق . وبعد أن عدا الكعك جملة مرات كادا يتفقان على أن يأكلا كعكة واحدة فقط ، ولا أحد يدرى . وسيكون طعمها شهياً ولا شك، وفيما هما يتطلعان إلى الكعك ، وقد أوشكا أن يتناولا واحدة ، نظرت الصغيرة إلى وجه أخيها وسألته : ألا يستطيع اللّه أن يعد !! ؟ وكان السؤال كافياً لأن ينهى التجربة ، وأرجعا الغطاء ، وحملا الكعك كله إلى الجدة !! ..
على أن الحقيقة الثانية هى أن اللّه لا يرى مجرد الأعمال ، بل يرى الأعمال تعبيراً عن الحب - فهو لا يستطيع أن يفصل الخدمة عن الحب ، ولا يستطيع أن يفصل الحب عن الخدمة ، وهكذا كانت خدمة كنيسة ثياتيرا مرتبطة بالمحبة .
على أن الحب والخدمة لم يكونا مجرد مشاعر إنسانية ، بل كانا ينبعان عن الإيمان العميق الصابر على التجربة والمحنة ، مهما قست الظروف واستدت الأحوال ! .. مات أبوان فى يوم واحد وتركا ولدين صغيرين لا قريب لهما ولا صديق يعتنى بهما فى تلك البلدة، فذهبا إلى خالهما فى لفربول لعله يضمهما إليه ، فباتا أول ليلة فى فندق لقيا من صاحبه كل لطف وعطف ومؤانسة، ولما نظر الرجل حرص أكبرهما على كتابه المقدس واهتمامه به أراد أن يعرف مدى تمسكه به ، فسأله أن يبيعه له قائلاً: إنى أراك فى حاجة إلى دراهم ، وأنا مستعد أن أعطيك بضع شلنات فيه، .. فقال الولد : لن أبيعه ولو هلكت جوعاً لأنى وجدت فيه مخلصى الحبيب وهو سراج لرجلى وتعزية فى ضيقاتى ، فقال الرجل : أعطيك جنيهاً ثمناً له ، فأجاب : إن كتابى مرشدى إلى إلهى وقوت نفسى الجائعة ، فكيف أحرم نفسى من طعامها الأبدى ، وآخذ بدلاً منه طعاماً لجسدى الفانى ، فقال الرجل : وماذا تفعل لأخيك إن لم يقبلكما خالكما فى البيت . أجاب : إن الكتاب يعلمنى كيف أتصرف إذ يقول : « إن أبى وأمى قد تركانى والرب يضمنى » .. فتعجب الرجل من إيمان الصغير فى مواجهة الحياة !! .
كان ملاك كنيسة ثياتيرا مغبوطاً لأن أعماله الأخيرة كانت أكثر من الأولى ، والرجل سعيد جداً لأن العكس لم يحدث ، وما أكثر الذين يبدأون حسناً ، لينتهوا أسوأ نهاية ، ويبدأون فى غيرة وحماس ونشاط لينتهوا فى ضعف وجمود وضياع عندما يفقدون محبتهم الأولى ، .. ولكن ملاك ثياتيرا يعلم أن الخدمة الناجحة لا تأخذ الربح البسيط فحسب ، بل الربح المركب ، أى إن الأرباح تضاف إلى الأصل لينمو المكسب مضاعفاً ، ولا شك فى أن أعماله الأولى وقد انتصبت الواحدة إلى جوار الأخرى ، كانت أشبه بالبنيان الذى عندما نضع فيه حجراً على حجر ، فإن الحجر الأول يحمل الثانى ، ويتضخم البناء ويقوى ويرتفع ، وحبة الحنطة وهى تقع فى الأرض ستثمر حبات عديدة ، تتحول بدورها سبباً للاثمار الأعظم والأجمل !! .. كان ملاك كنيسة ثياتيرا سعيداً بالنجاح الظاهر المتزايد فى خدمته يوماً بعد آخر!! ..
ملاك كنيسة ثياتيرا والزانية المسيبة
ورغم هذا النمو العظيم والتقدم الظاهر ، فإن الرجل كان يواجه خطراً داهماً رهيباً ، إذا لم يحزم الأمر تجاهه ، فإنه سيتحول إعصاراً يبدد كل جهده وعمله ، أو بحراً طامياً يجرفه فى طريقه مع الجميع ، .. وقد جاء هذا الخطر من أمرأة فى الكنيسة ، يصفها السيد «المرأة إيزابل».. ومن الغريب أن بعض الترجمات تترجمها «زوجتك ايزابل» .. ومن الغريب أن بعض الترجمات تترجمها «زوجتك ايزابل» وقد أخذ بعض الشراح والمفسرين بهذا التفسير حتى إن ألكسندر هوايت شبه ملاك كنيسة ثياتيرا فى العهد الجديد ، يهوشع النبى فى العهد القديم ، فكما كانت جومر بنت ديلايم تجربة هوشع ومأساته ، فإن إيزابل الجديدة كانت تجربة ملاك كنيسة ثياترا ، واستمر هوايت يتحدث عن نكبة الرجل القاسية ، والمرارة التى كانت تملأ حياته ، والتى ربما جعلته دائماً راكعاً على قدميه ، مكسور القلب أمام اللّه والناس ، ونحن لا نستطيع أن نذهب مذهب هوايت فى الأمر ، أو نتمشى معه فيه رغم براعة قلمه وتصويره ، .. ولا نعتقد أن المرأة كانت اسمها إيزابل حقيقة ، بل هى واحدة من اللواتى تسللن إلى الكنيسة ، وأصبح لها نفوذها وسيطرتها على نحو رهيب ، ويبدو أنها كانت من القوة بحيث أن الراعى عجز عن اتخاذ موقف حاسم تجاهها ، وتركها مسيبة تعيث فى الكنيسة فساداً دون أن تجد من يردعها أو يقف فى سبيلها ، ... وهنا لابد من وقفة متأنية بعض الشئ للسؤال كيف وصلت المرأة إلى مثل هذا النفوذ الرهيب!!؟ .. لقد كانت ايزابل القديمة ابنة ملك وزوجة ملك ، وحتى إذا نبذنا فكرة أن إيزابل الحديثة لم تكن زوجة الراعى ، فهل كانت تمثال عائلة كبيرة فى الكنيسة ، وأنها ربما كانت من أعلى الشخصيات الظاهرة فى المجتمع ، وأن الناس كانت ترى مركزها الاجتماعى فتفسح لها الطريق ، ومن ثم أخذت خطاها فى التقدم والتغلغل بكيفية لم يسهل معها مقاومتها أو الحد من نفوذها !! .. قد يكون !! والحقيقة هى أن مأساة الكنيسة فى مرات كثيرة ، ترجع إلى أنها تعطى هذا أو ذاك المركز المتقدم ليس على الأساس الروحى بل على اعتبارات بشرية محضة ، الأمر الذى يستغله الشيطان أبرع استغلال ، ... على أن ايزابل فى تياتيرا كانت تعلم بكل تأكيد أنه مهما يكن المركز الاجتماعى داخل الكنيسة ، فإنه لا يصلح قط ، أن يكون وسيلة للوثوب إلى المراكز القيادية أو الاستقرار فيها ، ولابد من تغطية الأمور وتثبيتها بلون دينى ، وهذا ما فعلته ايزابل القديمة عندما جندت المئات من أنبياء البعل والسوارى ، وهدمت مذابح اللّه لتقيم على أثرها مذابح للبعل ، .. ومن ثم فعلى إيزابل فى ثياتيرا أن تتشح بثوب دينى ، ولا مانع من أن تأخذ مركز النبوة ، وما أكثر الأنبياء الكذبة الذين ينادون باسم اللّه ، وهم دائماً مضللون،.. وقد وجدت إيزابل الحديثة طريقها بحجة التحرر من كل قيود فى أكل ماذبح للأوثان، وهى تغوى المخدوعين والمفتونين بنبوتها الكاذبة بالحرية التى نادى بها المسيح وأن الأكل فى حد ذاته لا يقدم ولا يؤخر ، بل إن المرونة واجبة للتعامل مع الناس ، دون تزمت أو انفصال ، فإذا كانت النظم السائدة هى أن الطوائف والجماعات من أبناء المهنة الواحدة ، يعيشون مترابطين يشتركون معاً فى الأعياد والحفلات والولائم ، ولا يجوز لواحد أن يشذ عن ذلك إلا إذا فُصل أو طُرد من المهنة أو الطائفة التى ينتمى إليها ، فلا مانع فى عرف النبية الكاذبة أن يكون حراً فى سريرته ، مع الإبقاء على الظاهر تمشياً مع الكياسة والمرونة التى ينبغى الأخذ بها حرصاً على المهنة أو لقمة العيش أو ما أشبه،.. هذه هى الغواية التى إذا استسلم الإنسان لها واستمرأ العيش فى ظلها ، لابد أن تجره جراً وئيداً أو سريعاً إلى « أعماق الشيطان » .. والشيطان فى العادة يضع فخاخه مغطاة ، ويبدأ بما يبدو أنه معقول « أو « منطقى » أو « لا ضير فيه » .. والأنبياء الكذبة فى كل العصور بدأوا هكذا ، .. غير أن السيد الذى كال المديح لملاك الكنيسة لمواجهته الهجوم من الخارج بكل قوة ونشاط متزايد ، لامه على ما كان يجرى داخل الكنيسة ، ومع أنه من الواضح أن قلة فى الكنيسة هى التى تبعت الغواية أو سارت وراءها ، إلا أن خطأ الراعى الفادح كان فى عدم حزمه تجاه المرأة الفاسدة المفسدة ، .. ومن اللازم أن يكون الراعى وديعاً متسامحاً صبوراً ، وقصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ ، لكنه يكون أحمق كل الحماقة ، ومستوجباً كل لوم ، إذا سمح لتعاليم كاذبة مضللة أن تشق طريقها إلى الكنيسة باسم الحرية الفكرية ، والتعرف على أفكار الآخرين أو معتقداتهم ، .. فى الواقع أنها ليست حرية بل هى « تسيب » بلا ضابط أو نظام ، . وهو نفس التعبير الغريب المترجم : « تسيب المرأة إيزابل » .. والبرهان الواضح دائماً للتسيب، هو الانحدار الخلقى ، وايزابل التى فى نكبتها كحلت بالإثمد عينيها لغواية ياهو بن نمشى ، لا تمنع فى أى عصر من أن تستخــدم كل وسيلة لتحقيق هدفها الخبيث ، والمهرطقون العارفون بأعماق الشيطان ، لا يمكن أن ننتظر منهم حياة التعفف والشرف !!..
ومع هذا كله فإن رحمة اللّه واسعة ، وهو يعطى أشر الخطاة فرصة للرجوع والتوبة : « وأعطيتها زماناً لكى تتوب عن زناها » ( رؤ 2 : 21 ) .. ولا يجوز لأحد أن يصور التسامح الإلهى جموداً أو عدم مبالاة أو إهمالا للعقاب الرادع القاسى ، .. إن لطف اللّه إنما ليقود الإنسان إلى التوبة ، وإلا فالصرامة آتية لمن لم يتب ، وسيتحول فراش التنعم إلى ضيقة عظيمة ، قد يراها الشرير فى المرض القاسى أو التعب الشديد أو ألم المعاناة أو ما أشبه مما لا يعرف معه طعم الهدوء أو الراحة أو الأمن أو السلام ، .. وليس هذا كله إلا خطوة تتلوها الخطوة التالية وهى الموت على أبشع صورة ، وكما قتل أولاد إيزابل القدامى على الصورة البشعة ، فهكذا يحدث مع الأخرى : « وأولادها أقتلهم بالموت » ( رؤ 2 : 23 ) لأن أجرة الخطية هى موت !! واللّه يفعل هذا لا لكى يثبت دينونة الأشرار فحسب ، بل لكى يتعلم المؤمنون أيضاً ويفزعون من هول الخطية : « فستعرف جميع الكنائس أنى أنا هو الفاحص الكلى والقلوب وسأعطى كل واحد منكم بحسب أعماله » ( رؤ 2 : 23 ) فى إحدى المزارع فى طرف إحدى الغابات فى السويد ، كان هناك بيت يسكنه رجل عجوز، ولما انتهت حياته، وضعوه فى قبر حفر على طرف المزرعة ، والشئ الغريب أن الرجل أوصى قبل وفاته أن يوضع تحت رأسه كتاب ضخم غريب المنظر ، وإذ دفع البعض حب الاستطلاع ، ازدادت غرابتهم إذ رأوا أوراق الكتاب خشنة ، وبين كل صفحة وأخرى زهرة أو ورقة تحمل معها قصة مكتوبة ، أو حادثاً حدث للرجل فى حياته ، ومن هذه الزهيرات أو الأوراق الذابلة عرفت قصة الرجل ، وتبين أنه كان من مشاهير العلماء، ومن الرجال المتضلعين فى اللغات ، ومن الموهوبين فى الموسيقى ، لكنه أضاع كل شئ بالإدمان على الخمر حتى ساءت صحته وضعف جسمه ونبذه الجميع ، فانعزل ليقضى أيامه الباقية فى الوحدة القاسية ، .. كان الرجل فى ساعات صحوه أشبه بالحمل الوديع ، لكنه عندما يستسلم لسلطان الخمر يتحول وحشاً كاسراً ، .. وكان يعود مرات كثيرة إلى قصص حياته ، ويمتلئ بالأسى والدموع ، فالزنبقة البيضاء تذكره بعروس أحلامه ، وورقة البلوط بصديق الدراسة ، .. وهكذا وهكذا من الصور المختلفة ، .. ووُضع الكتاب تحت رأسه « ووُضع هو فى الحفرة ، وأهيل عليه التراب ، ورفرفت الطيور فوق القبر ، وعصفت الرياح العاتية فوق قبره ، وتوارى العالم الذى أضاع حياته فيه بعيداً عن الحق الإلهى الذى كان يمكن أن ينقذه ويرفعه !! .. وهكذا يكون دائماً مصير الخطاة والأثمة والأشرار والذين ساروا فى درب إيزابل القديمة وعلى نهجها !! ..
ملاك كنيسة ثياتيرا والقوة النافعة
قال المسيح لملاك كنيسة ثياتيرا : « ولكنى أقول لكم وللباقين فى ثياتيرا كل الذين ليس لهم هذا التعليم والذين لم يعرفوا أعماق الشيطان كما يقولون إنى لا ألقى عليكم ثقلا آخر وإنماً الذى عندكم تمسكوا به إلى أن أجئ . ومن يغلب ويحفظ أعمالى إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم فيرعاهم بقضيب من حديد كما تكسر آنية من خزف كما أخذت أنا أيضاً من عند أبى . وأعطيه كوكب الصبح » ( رؤ 2 : 24 - 28 ) .. ولعله من اللازم قبل كل شئ أن ندرك أن سيدنا محب مترفق لا يقسو أبداً على أتباعه ومحبيه ، لأن نيره هين وحمله خفيف ، .. جاء فى أساطير الإغريق أن هرقل كان عبداً ليورسثيوس الملك ، وكان يكلفه بأعمال تفوق القدرة البشرية ، وكلما نجح هرقل فى عمل كان الملك يكلفه بعمل أقسى وأشد لعله يهلك ، وهو يقصد أن يقتله ، وحارب هرقل الوحوش ، وخاض بحاراً من المهالك والمتاعب، دون أن تلحقه رحمة سيده ومليكه ، .. لكننا نحن لا نعرف شيئاً من هذا القبيل لأن سيدنا محب ، وإلهنا رحيم فيقول: «إنى لا ألقى عليكم ثقلا آخر» .. بل على العكس يعطينا القوة على مجابهة أقسى الصعاب والمشقات ، ونحن نسير به ومعه وفيه من نصر إلى نصر ، .. وما من أحد وصل إلى قوة فى مواجهة الشر والأشرار والعالم إلا وهو يقول: «أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى» ( فى 4 : 13) يظن الآخذون بالملك الألفى الحرفى أن الوعد بالقضيب من الحديد سيكون للمؤمنين فى سحق الأشرار فى ذلك التاريخ ، ولو صح هذا لما طرح الوعد أمام ملاك كنيسة ثياتيرا ، مادام الأمر سيكون لأجيال أخرى بعيدة ، حسب تصورهم لا زالت فى طى المستقبل ، لكن الحقيقة هى أن المؤمن مزود بسلطان دائم فى مواجهة العالم والخطية والشر والجسد ، وهذا السلطان يبدأ بقبول المسيح وحياته فيه: «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد اللّه أى المؤمنون باسمه» ( يو 1 : 12 ) وكما وقف إيليا فى وجه إيزابل ، وكان يحمل معه سلطان السماء ، فقضى على أنبياء البعل والسوارى ، فهكذا المؤمنون لهم سلطانهم العظيم الذى يحطم الشر والأشرار ليحل مجد اللّه محل كل فساد واثم !! .. فإذا طال ليل الخطية ، وإذا بدا كما لو أن الظلمة تسود كل شئ ، فالسيد يحقق للمؤمن اشراقة الصباح : « وأعطيه كوكب الصبح » (رؤ 2 : 28) وكوكب الصبح هو شخصه المبارك عندما يأتى فى أحلك الليالى ليبدد قسوة الظلام، وتبزغ تباشير الصباح الدائم !! .. كانت ثياتيرا تعبد أبولو إله الشمس ، وأين أبولو الآن من يسوع المسيح ، وأين الظلمة الحالكة والتى ملأت العالم وهى توجه ذهنه المظلم إلى قرص الشمس، من نور العالم كوكب الصبح المنير ، بل شمس البر التى تشرق والشفاء فى أجنحتها!!.. كان وعد المسيح بالقوة والنور ، وهو المانح الوحيد العظيم لهما فى الحياة الحاضرة، والدهر الأبدى !! ..