ملاك كنيسة برغامس
" أنا عارف أعمالك وأين تسكن
حيث كرسى الشيطان وأنت متمسك باسمى"
( رؤ 2 : 13)
مقدمة
من المؤكد أن أقوى سيف فى يد المسيحى فى كل العصور والأجيال ، هو سيف الروح أى «كلمة اللّه» ، وهو السيف الذى غزت به المسيحية العالم ، وسيطرت على الأفكار والقلوب فى كل التاريخ ، ومن المؤسف أنها يوم طرحت هذا السيف ، واستبدلت به سيفاً آخر ، سقطت قروناً عديدة فى الظلام فى القرون الوسطى ، لقد حملت سيف العالم لمدة قرنين من الزمان ، وباءت بالفشل فى الخارج ، يوم ظنت أنها تخضع الممالك تحت ظلال الصليب بالمعارك والحروب ، وكان درساً تعساً لا ينسى،... ومن المؤسف أيضاً أنها عجزت عن أن تعى الدرس فى الداخل يوم ظنت أنها تستطيع مقاومة الإصلاح باستخدام القوة ضد المؤمنين بالكلمة الإلهية ، وسحقه بالبطش والطغيان ، ... وكان قميناً بها أن تعرف أن المسيح نهاها منذ يومها الأول عن الالتجاء إلى السلاح البشرى يوم قال لبطرس عندما جرد سيفه للدفاع عنه يوم الصليب : رد سيفك إلى مكانه لأن كل الدين يأخذون السيف بالسيف يهلكون » ( مت 26 : 52 ) . إن سلاحها الوحيد الدائم الذى يجب أن تحارب به ، هو الكتاب المقدس ، كلمة اللّه الحية الفعالة والأمضى من كل سيف ذو حدين ، وهو ما يقوله هنا المسيح لملاك كنيسة برغامس إذ رام أن ينتصر فى الداخل وفى الخارج على حد سواء : « وأحاربهم بسيف فمى » ( رؤ 2 : 16 ) . وكم يكون من المفيد جداً أن نتأمل قصة ملاك كنيسة برغامس التى تذكرنا بهذه الحقيقة الحيوية المؤكدة ، ومن ثم نرجو أن نتأمل القصة من النواحى التالية :
ملاك كنيسة برغامس وكرسى الشيطان
كان من حظ ملاك كنيسة برغامس وحظ الكنيسة هناك أن الشيطان لم يؤسس مجمعاً له كما فى سميرنا : « مجمع الشيطان » بل وطد أركانه أكثر من ذلك إذ جعل له قلعة أو عرشاً فيما أطلق عليه « كرسى الشيطان » والشيطان فى كل مكان وزمان ، وسواء فى حياة الأفراد أو البيوت أو المجتمعات أو الممالك ، لا يقف فى الغزو عند حدود ، بل هو دائم التغلغل يبنى قلاعه ويثبت كرسيه ، ويدعم عرشه ، دون أن يترك شبراً فى الأرض لا يسيطر عليه . إنه عندما يسكن نفساً لا يكتفى بأن يسكن بمفرده ، بل يأتى فى العادة بسبعة أرواح ، أخر أشر ، لتدخل أنفس الإنسان ، لتكون أخرته أشر بما لا يقاس من أوائله . ولعلنا نستطيع أن نفهم ذلك إذا ذكرنا أن برغامس كانت تقع على بعد خمسين ميلا إلى الشمال من ساردس ، وقد كانت يوماً عاصمة آسيا الصغرى ، وقد بنيت المدينة الأصلية على رأس تل عال يرتفع عن البحر بأكثر من ألف قدم، بينما المدينة الحالية مبنية تحت سفح التل ، وقد اشتهرت المدينة بمكتبتها التى كانت تلى مكتبة الإسكندرية فى الأهمية وإن كان مارك أنطونيو قد نقل أغلب كتبها ومجلداتها إلى الإسكندرية إرضاءً لكليوباترة ، والمدينة لم تكن تزاحم أفسس أو ساردس فى التجارة ولكنها زاحمت وتفوقت ، بسبب مكتبتها ، فى المعرفة والعلم ، وكان بها جامعة للدراسة ... والكلمة « رقوق » مأخوذة فى الأصل من اسمها ، .. وإن كان البعض يقول إن هذا الاسم يعنى قلعة ، واسم المدينة الحالية « برغامة » ، ... وقد امتلأت المدينة بكافة أنواع المعابد الوثنية ، ويزعمون أن جوبيتر ولد هناك ، ومن بين معابدها المشهورة معبد اسكولابيوس إله الشفاء ، وكانت بداخله حية تعبد ويقدم لها الطعام ، وقد بنى بها معبد عظيم فخم تكريماً للامبراطور أغسطس قيصر عام 30 ق.م. ، وكانت عبادة الامبراطور تمارس هناك أمام تمثال ضخم له ، فإذا رفض مسيحى هذه العبادة كان مصيره الموت حرقاً ، أو إرساله إلى روما ليلقى فريسة للوحوش ، ولعل هذا كله يعيننا على فهم معنى القول : « حيث كرسى الشيطان » ... وإذا كانت برغامس القديمة قد ذهبت وولت ، ولم يبق فى مكانها القديم سوى الأطلال للدراسة ، وبنيت مدينة أخرى أصغر على سفح الجبل ... إلا أن برغامس تظهر وتتكرر فى كل العصور حيث لا يرضى الشيطان أن يبقى فى مكان ما زائراً أو جائلا أو ضيفاً لفترة قصيرة ، بل يريد أن يستقر وأن يوطد كرسيه هناك ، .. وكم للشيطان من كراسى فى العديد من أوسع المدن وأكبرها فى عالم اليوم !! .. فهناك مثلا « كرسى السلطة » حيث يمتلك الزمان فى المدينة ويتولى السلطة فيها أناس امتلأت نفوسهم بكراهية السيد المسيح ، ومقاومة المسيحية ، وحيث تعتبر العبادة جريمة يعاقب عليها القانون ، وحيث تهدم الكنائس ، أو يمنع بناؤها أو تتعرض لألوان من الاضطهادات المرة القاسية ، وحيث يقف الدين عقبة فى سبيل الوظيفة ، أو ما إلى ذلك من الألوان المختلفة من الاضطهادات كما يجرى الآن فى البلدان الشيوعية .
وهناك أيضاً « كرسى الخرافة » إذ كان أهل برغامس يتعبدون لإله الشفاء اسكولابيوس ، ويقدمون الطعام للحية الرابضة فى معبده ، وكانوا يتلون الأدعية لكى تشفيهم الحية ، ... وهل هذه إلا صورة الحية القديمة وقد عادت مرة أخرى بالخرافة والحماقة والجهل ، ليأخذ الشيطان كرسيه ويثبت عرشه ويحصن قلعته فى برغامس ، .. وما أكثر ما يفعل الشيطان هكذا فى كل مكان وزمان ، .. عندما ذهب بوتيفاس رجل اللّه المسيحى ليعمل بين قبائل السكون فى القرن السابع الميلادى ، وجد هذه القبائل ، وقد سيطرت عليها الخرافات من كل جانب ، وفى أحد الأماكن رأى الناس يعبدون شجرة ضخمة من أشجار البلوط كانوا يطلقون عليها : « بلوطة الرعد » وقد قدسوها لأحد آلهتهم ، واستدعى بونيفاس الناس ، وهو يقول لهم إنه سيحطم هذه البلوطة أمام عيونهم ، فبدت على القوم علائم الغضب والقلق والخوف ، ولكن بونيفاس الطويل القامة القوى البنية تقدم بفأس فى يده وطفق يكيل لها الضربات ، وكانت جوفاء من الداخل ، فلم تثبت طويلا حتى انكفأت وسقطت . ولما رآها القوم طريحة دون أن يمسهم أو يمسه ضرر أدركوا أنهم عاشوا أسرى الخرافة والجهل حيناً طويلا من الزمان !! .. وفى الحقيقة يوم تجد الخرافة تحكم شعباً أو أمة أو جماعة من الناس فاعلم أن الشيطان قد دعم كرسيه بينهم وثبت قلعته وسلطانه .. ولا يجدى مع هذا القول إن المدينة كانت بها جامعة ، وكانت بها أعظم مكتبة بعد مكتبة الإسكندرية ، فقد كانت بلاد اليونان كلها بلاد الفلسفة والمعرفة والعلم ، ومع ذلك كانت الخرافات تملؤها من كل جانب ، ويكفى أن تقرأ قصص الإغريق وآلهتهم وعلاقة هذه الآلهة بالناس ، وعلاقة الناس بها ، وأنت تجد نفسك إزاء سيل لا ينتهى من الحماقة والخرافة والجهل، ومن ثم لم يكن غريباً أن تمتلئ أثينا نفسها بلد الحكمة ، بالأصنام التى جعلت بولس تحتد روحه وتمتلئ حزناً على الظلمة التى يضرب فيها الإنسان بعيداً عن اللّه ، .. فإذا أضفنا إلى هذا «كرسى المجون» والشهوات العارمة والدنس والفجور الذى وجد بالمدينة ، حيث كانت عبادة أفروديت آلهة الجمال جنباً إلى جنب مع عبادة اسكولابيوس إله الشفاء ، وقد استطاع الشيطان أن يقدس « الرذيلة » إذ كان من ضرورات هذه العبادة أن تخصص أعداد كبيرة من النساء ، ذواتهن للفجور باسم الجمال وإرضاءً للآلهة ، ومن القديم صاح إشعياء : « ويل للقائلين للشر خيراً وللخير شراً الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً الجاعلين المر حلواً والحلو مراً» (إش 5 : 20).. لقد ذبحت الفضيلة هناك وانتشرت الرذيلة ، وهى إلى اليوم تُذبح فى أرقى دول العالم تحضراً ومدنية ، باسم الحرية والجمال والرقى الإنسانى ، .. وقد وصف الرسول بولس هذه الحقيقة فى مطلع رسالة رومية على أدق صورة أمام الفكر الإنسانى : « لأنهم لما عرفوا اللّه لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا فى أفكارهم وأظلم قلبهم الغبى ، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد اللّه الذى لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذى يفنى والطيور والدواب والزحافات . لذلك أسلمهم اللّه أيضاً فى شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم . الذين استبدلوا حق اللّه بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذى هو مبارك إلى الأبد آمين . لذلك أسلمهم اللّه إلى أهواء الهوان ، وكما لم يستحسنوا أن يبقوا اللّه فى معرفتهم أسلمهم اللّه إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً نمامين مفترين مبغضين للّه ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين ، بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة الذين إذ عرفوا حكم اللّه أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت ، لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرون بالذين يعملون » ( رو 1 : 21 - 32 ) .. وفى مثل هذه الصور من الحياة يبنى الشيطان قلعته ويدعم كرسيه ويثبته !! ..
ملاك كنيسة برغامس والتسلل الداخلى
من الواضح أن ملاك كنيسة برغامس ثبت على نحو رائع ضد التجارب الخارجية الآتية إليه من المدينة التى يسكن فيها حيث كرسى الشيطان ، وقد ظهر هذا الثبات واضحاً فى موقف أنتيباس الشهيد الذى رضى الموت على الخضوع للتجربة ، .. والمسيح يرقب الأخبار والأشرار، بكل تدقيق ، فى الأرض ، وتمتلئ عواطفه بالحب أو بالبغض حسبما يكون التصرف قريباً من قلبه أو مكروهاً أمام عينيه ، ليس هناك عمل صغر أو كبر يختفى عن عينيه ، وما أجمل أن يقول المسيح عن أنتيباس : « شهيدى الأمين » ... وشتان بين وصف قاتلى أنتيباس ، والتهم التى أدانوه بها ، ووصف المسيح له ، وشتان بين أقوال الأرض الكاذبة الآثمة الضالة المضللة ، وبين أقوال السيد الحلوة الرقيقة الصادقة المادحة، على أية حال لم ينجح الشيطان في هجومه العنيف في الاضطهاد الخارجي، فإذا به يتحول إلى الداخل عن طريق التسلل بالإغراء كعادته إن لم يفلح التهديد.. ويأتى الهجوم بالتعليم المغرى الكاذب ، عن طريق تعليم « بلعام » أو تعليم « النقولاويين » ... ولقد سبق لنا فى دراسة شخصية بلعام أن تحدثنا كثيراً عن خبثه الذى استطاع به أن يسقط إسرائيل ، ويفوز فى الوقت نفسه بعطايا بالاق ، .. ويبدو أن اتباع بلعام يدخلون الكنيسة ، بحثاً عن المغنم المادى أو النفوذ الشخصى ، ولو كان فى ذلك تدمير الحق ، وقتل الصدق والأمانة والبراءة ، وهم دائماً يمزجون السم بالدسم ، وليس من السهل أن تكتشف خداعهم إذ هم مثل الثعلب الذى طارده الصيادون فأسرع إلى كوخ فلاح ، وطلب منه أن يأويه ، فأدخله الفلاح إلى ما وراء الباب ، وجاء الصيادون وسألوا الفلاح : هل مر به ثعلب ، فأجاب : كلا ، وهو يشير بإصبعه إلى ما وراء الباب ، ولم ينتبهوا إلى إشارته ، وساروا بعيداً ، وخرج الثعلب دون أن يظهر عليه ما ينم عن حالة الرضى ، فقال الفلاح : ألا تشكرنى على ما فعلت معك ، .. وأجاب الثعلب : كان يمكن أن أشكر لولا إيماءة إصبعك التى كادت أن تكون سبب هلاكى ، .. هكذا فعل بلعام ، إذ أنه بين لبالاق بن صفور أن هذا الشعب لا يمكن أن يهزم ، لأنه شعب قد باركه الرب ، وهو لا يهزم إلا إذا أخطأ ، وهكذا فتح بأسلوبه الجهنمى الطريق أمام بالاق ، فلا مانع من أن يختلط الشعب ببنات موآب فى ولائم حلوة صاخبة ، يقدمن لآلهتهن الذبائح ، ولا مانع من أن تكون هناك الولائم الحافلة والرقص واللعب أمام شعب متعب يعيش على المن فى الصحراء .. ووجد داخل كنيسة برغامس من ينادى بأن الاختلاط بالوثنيين لا شر فيه أو جزء منه ولا مانع من الأكل فى ولائمهم ، فالطعام فى حد ذاته لا يضير ، ولا مانع من حضور هذه الولائم والاستمتاع بشهى الطعام فيها ، وقد وجد أيضاً النقولاويون الذين تحدثنا عنهم عند الحديث عن كنيسة أفسس ، والذين ينادون بأن الحرية المسيحية لا يجوز تعطيلها أو تقييدها بأى قيد اجتماعى أو أدبى ، وهى أعلى ما حصل عليه الإنسان فى المسيح ، ... وهنا الخطر الداهم الكامن ، أو الثقب الذى حدث فى السفينة ، فأخذ الماء يتدفق إلى داخلها ، ليغرقها تماماً ، أو هنا الشيطان يتحول من المدينة إلى الكنيسة نفسها ، ويستقر بكرسيه داخلها ، وتستطيع أن تدرك هذا من قول المسيح لملاك الكنيسة : « فتب وإلا فإنى آتيك سريعاً وأحاربهم بسيف فمى » ( رؤ 2 : 16 ) لعله من الطريف أن نشير إلى أقوال يوحنا نيوتن وجيمس دور هام ومس روستى وهم يتحدثون عن كرسى الشيطان فى قلب ملاك كنيسة برغامس ، وقلوبهم هم ، وكل قلب لا يتنبه أو يتحفظ من تسلل الخطية إلى أعماقه ومشاعره ، ويقول دور هام إن الشيطان روح ، وهو لا يسكن فى هياكل مصنوعة بأيدى الناس سواء فى برغامس أو أدنبره ، ولكنه يسكن فى أرواح الناس ، وعلى وجه الخصوص فى أرواح خدام الدين ، ... وهو يهتم أكثر بخدام الدين للدور الذى يمكن أن يلعبوه فى الحياة الدينية ، وهو هنا أشبه بملك أرام وهو يقول لرؤساء المركبات التى له الاثنين والثلاثين «لا تحاربوا صغيراً ولا كبيراً إلا ملك بإسرائيل وحده» (1 مل 22 : 31) أجل !! هذا هو الواقع لأنه إذا نجح الشيطان فى إسقاط القائد فمن السهل أن يسقط الجيش بأكمله، .. وإذا نجح فى اقتناص الراعى فمن السهل أن يصل به ومعه إلى الكثيرين فى الكنيسة نفسها، .. وقد عد يوحنا نيوتن نفسه سعيداً لبعده عن لندن التى كانت فى تصوره أشبه بمدينة برغامس وفى ذلك يقول : إن لندن مدينة الشراك الخطرة ، وأحسب نفسى سعيداً أن يقع نصيبى بعيداً عنها . إن لندن تظهر لى مثل البحر الملئ بالزوابع التى تحطم سفناً كثيرة ، فالمنازعات السياسية ، والزوابع العقائدية ، وفضائح المعلمين الكذبة ، والتحزبات مع أو ضد الكثيرين من الخدام ، والملاهى وما أشبه تكاد تقنعنى بأن الإنسان فى لندن فى حاجة إلى نعمة تختلف عن النعمة التى يحتاجها الساكنون فى الريف ، .. وأقصد أن النعمة فى لندن ينبغى أن تكون على درجة متقدمة جداً ، فالقلة المختارة المحفوظة من اللّه ببساطة قلبها وروحانية حياتها ، يبدو أنها من أفضل الطبقات المسيحية فى هذه البلاد ، وليس معنى ذلك أننا خارجها بدون تجارب ، فشر قلوبنا وأحابيل الشيطان تلزمنا بأقصى الجهد من الحذر ، ونفسى محفوظة فى الحقيقة بمعجزة إلهية ، إذ أن الشيطان يبذل كل شئ لإسقاطى ، .. غير أنى فى لندن فى زحام التجارب المحيطة بى ، ولكنى فى الريف هناك زحام التجارب فى داخلى ، .. وأين أستطيع أن أجد استجمامى وراحتى، وفى كل مكان هناك فرق شيطانية رابضة ؟! ... ومن ثم فإننا فى حاجة مع الكسندر هوايت إلى أن نذكر كل عضو فى الكنيسة ، بضرورة الصلاة من أجل خدام اللّه ، لئلا يستقر الشيطان فى أفكارهم وقلوبهم وينقل كرسيه أيضاً إلى داخل الكنيسة ، ويستقر هناك !! .. وعندما يقول السيد لملاك كنيسة برغامس : « تب » .. فإننا ندرك أن هناك خطية ، وخطية محزنة قاسية ، ومن الواجب مكافحتها ، ... والمكافحة هنا بشئ واحد « أحاربهم بسيف فمى » ... وهو كلام يبدو غريباً ، أو تهديداً للملاك نفسه ، الذى قصر فى محاربتهم بالوعظ والإرشاد والتعليم ، وإذ لا يقوم المنبر بما يجب عليه ، فإن اللّه سيرسل غيره ليتولى المهمة بدلا منه ، ويأتى المسيح فى آخرين ليحاربهم بسيف فمه !! .. وهنا يؤكد المسيح أن الحرب الحقيقية والصحيحة لا يمكن أن تكون على الإطلاق بسلاح بشرى بل بسلاح الكلمة الإلهى ، ... والتاريخ على الدوام يشهد بأن كلمة اللّه لا يمكن أن ترجع فارغة !! .. بعد أن عاد مارتن لوثر من مؤتمر ورمس ، قبع فى قصر ورتبرج ، وكان هناك شبه سجين ، إذ اختفى ، أنه مات ، ولكنه أجاب على هذا التصور بالقول : إنهم يفكرون فى موتى ويقولون إن مارتن لوثر قد صمت صوته إلى الأبد ، ويسرون إذ يتصورون أن كل ما فعلت قد انتهى إلى لا شئ ، ولكنهم سيستيقظون ذات صباح جميل ليروا أن الشيطان قد هزم ... أنا لست هنا فى خمول أو كسل بل هناك يبدأ عملى الحقيقى !! .. ما هو السلاح الذى نحارب به ؟ إنه سيف الرب الذى بطش بأعدائى ، ... وخلال مدة بقائى هنا سأتعامل معه بقوة أعظم إذ سأترجم إلى لغة الشعب ما كتبه البشيرون ، ليقرأ الشعب الإنجيل !! .. آه هل يعلم خدام اللّه أنه حيث يثبت الشيطان كرسيه فى الأرض ، فإنه ليس هناك من قوة تدمر هذا الكرسى سوى كلمة اللّه الحية الفعالة التى هى أمضى من كل سيف ذى حدين !! ..
ملاك كنيسة برغامس وسر الحياة
وهناك نأتى إلى وعد المسيح المرسل إلى هذا الملاك فى حالة فوزه وانتصاره ، وإذا كان الوعد لملاك كنيسة أفسس بطعام الحياة ، ولملاك كنيسة سميرنا بإكليل الحياة ، فإن الوعد لملاك كنيسة برغامس يمكن أن يكشف عن سر الحياة : « من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى وأعطيه حصاة بيضاء وعلى الحصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذى يأخذ » (رؤ 2 : 17 ) وهنا نحن أمام الحياة المستترة مع المسيح ، وما تصل إليه لا من مجرد طعام الحياة ، أو تاج الحياة ، بل أكثر من ذلك سر الحياة نفسها ، « وسر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم » ( مز 25 : 14 ) ، وهذا السر يكمن فى طعام السماء ، فإذا كانت العبادة فى برغامس تمتلئ بالموائد الحافلة المقدمة للآلهة ويأكل منها الوثنيون العابدون ، ومع ذلك لا يشبعون ، وإذا كان المؤمنون فى المدينة ، وهم محاطون بالتجارب والمتاعب والحياة الشبيهة بحياة الصحراء القاسية ، فإن اللّه يرسل لهم على وجه عجيب ومجيد طعام السماء الخفى السرى ، فيشبعون على نحو معجزى رائع .. كان بين طلبة إحدى الكليات طالب شاب ممتاز يسير على عكازين ، وكان محبوباً من الجميع ، وابتسامة السماء دائماً على وجهه ، وقد نال مراتب شرف دراسية كثيرة كما نال تقدير واحترام رفاقه فى الدراسة. وقد سأله فى أحد الأيام ، زميل عن سبب عجز ساقيه فأجاب : إنه شلل الأطفال . وقال الصديق ، وكيف استطعت إذاً أن تسير فى الحياة قدماً مع هذا الداء الوبيل ، فأجابه باسماً : إن المرض لم يستطع أن يلمس القلب !! .. فإذا كان المؤمن يستطيع فى أقسى الأجواء أن يعيش منتصراً سعيداً لأن قلبه مع اللّه ، فكم بالأحرى عندما تفيض عليه بركات الحياة الناجحة !! .. إن العالم يدهش لما يراه فى حياة المؤمنين من قوة ، وهو أعجز من أن يدرك السر ، لأنه يحكم دائماً على أساس المنظور ، ولا يستطيع أن يرى المسيح خبز الحياة وسر الحياة لكل واحد منا !! .. والمسيح لا يعطى المن الخفى فحسب ، بل يعطى الحصاة البيضاء أيضاً ، أو بعبارة أخرى ، يعطى حظ الحياة ونصيب الحياة لكل واحد منا ، والحظ لا يخضع فى فهم الناس لقواعد حسابية معروفة ، بل هو سر خفى ، وكان عند الرومان يأخذ الحصاة البيضاء واحد من اثنين : إما البرئ فى المحكمة أو الفائز فى الألعاب ، إذ كان القضاة يقترعون بالحصاة البيضاء ويلقونها عند الحكم بالبراءة ، .. كما كانوا يعطون الحصاة البيضاء للفائزين فى الألعاب الأولمبية ، وفى الحالين كان اسم الفائز يكتب عليها ، .. وأراد المسيح أن يؤكد سر الحياة ، وهو يعطى الفائزين أمامه ، حتى ولو حكم عليهم الطغاة وأسلموهم للاستشهاد، هذه الحصاة البيضاء التى حرموا منها ظلماً وعدواناً !! .. والسيد يؤكد هنا أنه إن فاتتهم عدالة الأرض ، فإن عدالة السماء لا يمكن أن تضيع جزاءهم !! وقد أضاف المسيح أيضاً بأنه سيعطى المؤمن الفائز اسماً جديداً لا يعرفه إلا من يأخذه ، .. والاسم فى العادة يشير إلى شخصية الإنسان وطبيعته، .. والمسيح يطوى شخصياتنا القديمة ، وتاريخها القديم ، ويعطينا الخليقة الجديدة ، والحياة الجديدة ويعمل فيها بسره العجيب المغير ، ومهما يعرف الناس عنا أو مهما يكتشفوا فينا، فإنهم لا يستطيعون البتة أن يدركوا الطريقة التى أعاد المسيح فيها بناء الوعاء من جديد ، أو مدى ما يمكن أن يضع فيه ، فى العالم الحاضر أو الأبدى ، من بركات وخيرات وأمجاد وعظائم، .. سيبقى هذا سر النعمة الأبدى المغلق الذى لا يفهمه على الوجه الكامل والمجيد والعظيم سوى صاحبه !! .. أيها المؤمن هل تعلم أن الأبدية كلها ستتمخض عن سر الحياة الهائل الذى يربطنا بالمسيح ، ولن تتعلمه بالتمام هنا ، لكنك ستراه وتعيشه على الوجه العجيب هناك؟!!..