بُسْتَانُ الْرُهْبَانِ
عن آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
دير القديس أنبا مقار
برية شيهيت
بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين
القديس أنطونيوس الكبير
قال القديس أنطونيوس: «رأسُ الحكمةِ مخافةُ اللهِ. كما أنّ الضوءَ إذا دخل إلى بيتٍ مُظلمٍ طرد ظُلمَتَه وأنارَه، هكذا خوفُ اللهِ إذا دخل قلبَ الإنسانِ طرد عنه الجهلَ وعلَّمه كلَّ الفضائلِ والحِكمِ».
سيرة القديس أنطونيوس: من أهلِ الصعيدِ من جنسِ الأقباطِ، وسيرتُه عجيبةٌ طويلةٌ إذا استوفيناها شرحاً ... وإنما نذكرُ اليسيرَ من فضائِلِه:
إنه لما توفي والدُه دخل إليه وتأمَّل وبعد تفكيرٍ عميقٍ قال: «تبارك اسمُ الله، أليست هذه الجثةُ كاملةً ولم يتغير منها شيءٌ البتة سوى توقُّف هذا النَّفس الضعيف. فأين هي همَّتُك وعزيمتُك وأمرُك وسَطوتُك العظيمة وجمعُك للمالِ. إني أرى الجميعَ قد بَطُلَ وتركتَه ... فيا لهذه الحسرةِ العظيمةِ والخسارةِ الجسيمة». ثم نظر إلى والدِه وقال: «إن كنتَ قد خرجتَ أنت بغيرِ اختيارِك فلا أعجبَّن من ذلك، بل أعجبُ أنا من نفسي إن عملتُ كعملِك». ثم أنه بهذه الفكرةِ الواحدةِ الصغيرةِ ترك والدَه بغيرِ دفنٍ. كما ترك كلَّ ما خلَّفه له من مالٍ وأملاكٍ وحشمٍ، وخرج هائماً على وجهِهِ قائلاً: «ها أنا أخرجُ من الدنيا طائعاً كي لا يخرجوني مثلَ أبي كارهاً». ولم يزل سائراً حتى وصل إلى شاطئِ النهرِ حيث وجد هناك جميزةً كبيرةً وعندها بربا، فسكن هناك ولازَمَ النسكَ العظيمَ والصومَ الطويلَ، وكان بالقربِ من هذا الموضعِ قومٌ من العربِ، فاتَّفق في يومٍ من الأيامِ أن امرأةً جميلةَ الصورةِ من العربِ نزلت مع جواريها النهرَ لتغسلَ رجليها ورفعت ثيابَها وجواريها كذلك. فلما رأي القديسُ أنطونيوس ذلك حوَّل نظرَه عنهن وقتاً ما ظناً منه أنهن يمضين. ولكنَّهن بدأن في الاستحمامِ في النهرِ. فما كان من القديسِ إلا أنه قال لها: «يا امرأة أما تستحين مني وأنا رجلٌ راهب»ٌ؟ أمَّا هي فأجابته قائلةً له: «اصمت يا إنسان. من أين لك أن تدعوَ نفسَك راهباً؟ لو كنتَ راهباً لسكنتَ البريةَ الداخليةَ، لأن هذا المكانَ لا يصلُحُ لسُكنى الرهبانِ». فلما سمع أنطونيوس هذا الكلامَ لم يَرُدَّ عليها جواباً، وكثُرَ تعجُّبه لأنه لم يكن في ذلك الوقتِ قد شهد راهباً ولا عَرَف اسمَه. فقال في نفسِهِ: «هذا الكلامُ ليس من هذه المرأةِ، لكنه صوتُ ملاكِ الربِ يوبخني». وللوقتِ ترك الموضعَ وهرب إلى البريةِ الداخليةِ وأقام بها متوحداً. لأنه ما كان في هذا الموضعِ أحدٌ غيرُه في ذلك الوقتِ، وكانت سُكناه في قريةٍ قديمةٍ كائنةٍ في جبلِ العربةِ. صلاته تكون معنا آمين.
وكان يوماً جالساً في قلايتِهِ فأتى عليه بغتةً روحُ صغرِ نفسٍ ومللٌ وحيرةٌ عظيمةٌ، وضاق صدرُه، فبدأ يشكو إلى اللهِ ويقول: «يا ربُّ إني أحبُ أن أخلصَ لكن الأفكارَ لا تتركني، فماذا أصنعُ»؟ وقام من موضِعِه وانتقل إلى مكانٍ آخرَ وجلس. وإذا برجلٍ جالسٍ أمامه وعليه اسطوانةٌ ومتوشحٌ بزنارِ صليبٍ مثال الإسكيم، وعلى رأسِهِ كوكلس (أي قلنسوة) شبهُ الخوذةِ، وكان جالساً يُضفِّرُ الخوصَ. وإذا بذلك الرجل يتوقف عن عملِهِ ويقفُ ليصلي. وبعد ذلك جلس يُضفِّرُ الخوصَ ثم قام مرةً ثانيةً ليصلي، ثم جلس ليشتغلَ في ضفرِ الخوصِ، وهكذا ... أما ذلك الرجل فقد كان ملاكَ اللهِ أُرسِلَ لعزاءِ القديسِ وتقويتِهِ، إذ قال لأنطونيوس: «اعمل هكذا وأنت تستريح»، ومن ذلك الوقتِ اتَّخذ أنطونيوس لنفسِهِ ذلك الزي الذي هو شكلُ الرهبنةِ، وصار يُصلي ثم يشتغلُ في ضفرِ الخوصِ؛ وبذلك لم يَعُد المللُ يضايقه بشدةٍ. فاستراح بقوةِ الربِ يسوع له المجد.
من تعاليم القديس أنطونيوس:
قال: «إنّ أولَ كلِّ شيءٍ هو أن تصلي بلا مللٍ، واشكر اللهَ على كلِّ ما يأتي عليك. وإذا قُمتَ باكراً كلَّ يومٍ اسأل عن المرضى الذين عندك. لا تتحدث مع صبيٍ ولا تعاشره بالجملةِ ولا ترهبنه بسرعةٍ, ولا ترقد على حصيرةٍ واحدةٍ مع من هو أصغر منك، ولا تخالط علمانياً بالجملةِ، ولا تقترب إليك امرأةٌ ولا تَدَعها تدخلُ عندك، فالغَضَبُ يمشي خلفها، ولا تَعُدْ تفتقد أهلَك الجَسَدَانيين. ولا تُعطِ لهم وجهَك لينظروك. لا تُبقِ لك أكثرَ من حاجتِك، ولا تدفع أكثرَ من طاقتِك. وصدقتُك أعطِها لفقراءِ دَيرِك. وإذا حدثتْ عثرةٌ بسببِ شابٍ لم يلبس الإسكيمَ فلا تُرهبنه بل أخرجه من الديرِ بسرعةٍ».
حدث أنه لما دخل القديسُ البريةَ الداخلية، أن الشياطينَ نظرت إليه منزعجةً. فاجتمعتْ عليه وقالت له: «يا صبيَ العمرِ والعقلِ، كيف تجاسرتَ ودخلتَ بلادَنا، لأننا ما رأينا بشراً آدمياً سواك». وابتدَءوا يجاهدونه كلُّهم. فقال لهم: «يا أقوياءُ، ماذا تريدون مني أنا الضعيفُ المسكينُ. وما هو مقداري حتى تجمَّعتم كلُّكم عليَّ. أَلاَ تعلمونَ أني ترابٌ ووسخٌ وكلا شيءٍ، وضعيفٌ عن قتالِ أحدِ أصاغِرِكم». وكان يُلقي بذاتِهِ على الأرضِ ويصرخُ ويقول: «يا ربُّ أعني وقَوِّ ضعفي. ارحمني يا ربُّ فإني التجأتُ إليك. يا ربُّ لا تتخلَّ عني ولا يَقوَى عليَّ هؤلاء الذين يحسبون أني شيءٌ. يا ربُّ أنت تَعلَمُ أني ضعيفٌ عن مقاومةِ أحدِ أصاغر هؤلاء». فكانت الشياطينُ إذا سمعتْ هذه الصلاةَ المملوءةَ حياةً واتضاعاً تهربُ منه ولا تقدرُ على الدنوِّ منه.
وحَدَثَ أن جمعَ الأركونُ (أي رئيسُ الشياطينِ) كلَّ آلاتِ اللَّهوِ والطربِ واللَّذاتِ والنعيمِ والنساءِ وسائر أنواع الزنى ولذَّاتهِ. أما هو فكان يُغمِضُ عينيه ويقولُ: «عجباً منكم. كيف تجعلونَ لي مقداراً وتحتالون في سقوطي، مع إني ضعيفٌ عن مقاومةِ أحدِ أصاغركم. ابعدوا عني وعن ضعفي أنا المسكينُ الترابُ والرماد». وبذلك كانت الأفكارُ تسقطُ عنه بمعونةِ الله، والشياطينُ كانت تحترقُ لكثرةِ اتضاعِهِ. وفي مرَّاتٍ كثيرةٍ كانت الشياطينُ تُحضرُ له جميعَ أنواعِ التخويفِ والإزعاجِ والتهويلِ والعذابِ. وهو يصرخُ إلى اللهِ باتضاعٍ ويقول: «انجدني يا ربُّ بمعونتِك ولا تَبْعُد عن ضعفي». وللوقتِ كانت الشياطينُ تهربُ عنه. ومراراً كثيرةً أيضاً كانت الشياطينُ تهجمُ عليه وتضربهُ ضرباً مؤلماً. وهكذا أقام القديسُ أنطونيوس ثلاثين عاماً إلى أن نظرَ الربُّ يسوعُ المسيح إلى كثرةِ اتضاعِه وصبرهِ واحتمالِه وكَسَرَ عنه شدةَ الأعداءِ. صلاته تكون معنا آمين.